في مدرسة الحب
علمني حبك أن أحزن وأنا محتاج منذ عصور
لامرأة تجعلني أحزن
لامرأة أبكي فوق ذراعيها مثل العصفور
لأمرأة تجمع أجزائي كشظايا البلور المكسور
علمني حبك سيدتي أسوء عادات
علمني أفتح فنجاني في الليلة الآلاف المرات
واجرب طب العطارين وأطرق بابا العرافات
علمني أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات
و أطارد وجهك في الأمطار وفي أضواء السيارات
وألملم من عينيك ملايين النجمات
يا امرأة دوخت الدنيا يا وجعي يا وجع النايات
أدخلني حبكِ يا سيدتي مدن الأحزان
وأنا من قبلكِ لم أدخل مدن الأحزان
لم أعرف أبداً أن الدمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان
علمني حبكِ أن أتصرف كالصبيان
أن أرسم وجهك بالطبشور على الحيطان
يا امرأة قلبت تاريخي
إني مذبوح فيكِ من الشريان إلى الشريان
علمني حبك كيف الحب يغير خارطة الأزمان
علمني أني حين أحب تكف الأرض عن الدوران
علمني حبكِ أشياء ما كانت أبداً في الحسبان
فقرأت أقاصيص الأطفال دخلت قصور ملوك الجان
وحلمت بأن تتزوجني بنت السلطان
تلك العيناها أصفى من ماء الخلجان
تلك الشفتاها أشهى من زهر الرمان
وحلمت بأني أخطفها مثل الفرسان
و حلمت بأني أهديها أطواق اللؤلؤ والمرجان
علمني حبك يا سيدتي ما لهذيان
علمني كيف يمر العمر ولا تأتي بنت السلطان
في هذه القصيدة أراد نزار أن يجعلنا نقرا في كراسة الشوق قصة حب تغزل نسيج الجمال .. فنتفق معه في محطات الإبداع وروعة التصوّيـر ... ثم نعود لنختلف معه في دخول بعض سراديب العقل المظلمة .. ويعترف لنا بهذا التجني ولكن لا نختلف على عمق شاعريته وقوة شعره إبداعـاً رائعاً في بديع الشعر وإن عارضناه في بعض المفاهيم . وحيث أن للقصيدة أوجه عده .. نسلط الضوء على مدرسة الحب من زاوية واحده نخرج من خلالها بانطباع يحكي لنا حال الشاعـر في هذه الرحلة .
علمني حبكِ أن أحزنْ ..
عندما نقرا هذه الجملة كمدخل لتعبير وجداني يتبادر لذهن أن هناك عتب أو تذمر من هذا الحب .. ولكن ...
وأنا محتاجُُ منذو عصور ...
لإمرأة تجعلني أحزن ...
نقف مذهولين مع هذا الحس الغريب ، فكيف لهذا الشاعر أن يتحرر من ديباج الحياة ليرتدي أوجاع الزمان بإرادته..وكأنه أراد أن يهمسَ في أسماعنا بأنه سئم خمول المشاعر وأباح القيد ، ثم يسترسل قائلاً..
لإمرأة أبكي فوق ذراعيها ... مثل العصفور ...
هذه الصورة الرومنسيه والتي يبحث عنها شاعرنا ..تجعلنا نعود إلى عِلم النفس لنبحث عن تشخيصٍ لهذا العطش العاطفي ولكن عندما ندرك بأنه الشاعر نتذكر بأنه هو الرجل الذي لا يفارق طفولته حساً مرهفاً .. مهما انطوت به السنين ، وكأنه يعبث في دائرة الحب بحثاً عن لذة الحنان ليرتمي كالعصفور طفلاً في ذاك المهد الدافئ .
لإمرأة تجمع أجزائي ...
كشظايا البلور المكسور...
أراد نزار أن يشعرنا بأن أجزاءه المبعثرة بين هموم الحياة .. لا تكفيه حزناً.. أو لا تثيره جرحاً .. فهب متاعب الزمن يقابلها بجلد الكفاح وصمود الصبر والتصبر رغم أنها شفافة جداً كالزجاج الرقيق " البلور" تطايرت فوق أعباء الزمن وهذا يعطينا إحساس بأنها تنبع من الشعور لشفافيتها .. ولعل ثورة بركان الحب وهيمنة الشوق قوة تفوق قوة الزمن ولينفتق الأفق ويسبح الفكر في مدن الأحلام .. وهذا ليس جرحاً في حساب الشاعر بل هو تضميد الجراح .
علمني حبكِ سيدتي أسوء العادات ...
علمني أفتح فنجاني في الليلة ألاف المرات ...
وأجرب طب العطارين .. وأطرق باب العرافات ...
نقف نتأمل ماهي مكتسبات نزار في مدرسة الحب .. " أسوء العادات " " أن أفتح فنجاني " " أطرق باب العرافات " .. نشعر بالعتب .. بل نـشعر بالغضب .. ونتسأل لماذا هذا الانخراط في هذا الوهم الخرافي المحظور .. وقبل أن نرفع التهمه أو نؤكدها .. نعود قليلاً إلى قوله ..
" علمني حبكِ سيدتي أسوء العادات " .. فنقف أمام هذا الاعتراف ونتعامل مع هذا المُحِبْ معامله الفاقد للوعي .
علمني أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات ...
وطارد وجهكِ في الأمطار وفي أضواء السيارات ...
لا يزال يتكلم عن مكتسباتهِ من الحب .. ولعل هذه المكتسبات الجديدة تجعلنا نؤكد حالة ألا وعي .. " ونرفع التكليف "
فقد نراه في خدر الحب وحبيبته قد انتزعت عقله ورمت به في غيب الزمن .. ثم انتشلت قلبه وأيقظت براكين المشاعر .. ليبدأ في المطاردة وهو أعزل العقل .. فوق أرصفه الطرقات ، ولنا أن نتخيل .. ذاك المتيّم وهو يلهث وراء انعكاس الضوء .. في الماء .. كحبات اللؤلؤ يتساقط أمام عيناه ويتلذذ بهذا البلل وبهذا السقم الطاغي ويخال له محبوبته كخيوط الذهب بين هذه الأضواء المتبعثره بهذا الجمال .
وألملم من عينيكِ ملايين النجمات...
ماذا يقصد شاعرنا .. من ملايين النجمات .. فإذا كانت هي من تجمع أجزائه أليست هي محبوبته .. ومن أحبته ؟! " وعيناها هي فهرس مشاعرها ؟! .. والنجمات .. هي دلائل تحديد الاتجاهات .. فشاعرنا يقرا في عينها حقيقة المشاعر .. ولكن ملايين الخامات تعطينا شعوراً بالكثرة غير المعقولة وهذا يشعرنا بأن الشاعر يعيش حالة توهان .. ويؤكد لنا ذلك في قوله ..
يا إمرأه دوخت الدنيا .. ياوجعي .. ياوجع النايات ...
لا يزال مستغرقاً في غفوته وتوهانه " دوخت " .. فهو لا يرى في الكون سوى من يحب .. وكأنه تصور هذا الكون يشاطره غفوته لذا قال
.. " دوخت الدنيا " .. ولعل عذره .. " يا وجعي " .. ثم .. " ياوجع النايات " فالناي عازف الحزن يتوجع وشاعرنا يرى هذا الأنين بتأثير محبوبته .. وهذه الإسقاطات تنم عن حال الشاعر ..
أدخلني حبكِ سيدتي مدن الأحزان .
وأنا من قبْلكِ لم أدخل مدن الأحزان .
عند هذه الجزئية الموجعة من القصيدة نشعر بأن شاعرنا حقق غايته . " وأنا محتاج منذو عصور .. لإمرأة تجعلني أحزن "
وهو لم ينكر هذا الإحساس المنشود أو يتذمر منه .. فقد ناداها ..
" سيدتي " وهذا اعتراف منه بالقبول .ولكن هـل يجوز لنا أن نقول بأنه أدرك الخطاء ويفكر في الخلاص من هذا الحزن .
لم أعرف أبداً أن الدمع هو الإنسان ..
أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسان ..
أجاب بتأكيد يقطع الشك بأنه ليس في حاله تراجع ..بل في قمة الرضا ..
ولكن هذا الإدراك .. " لم أعرف " .. ألم يكن موجوداً عند شاعرنا من قبل .. ؟!!
دعونا نفرض بأنه لم يدرك هذا الشعور إلا بعد أن عاشه .. فلماذا قال ..
وأنا محتاج من ذو عصور .. لإمرأة تجعلني أحزن ..
هنا يتأكد لنا أن الشاعر لم يدرك حقيقة الإنسان وجمال إنسانيته إلا بعد أن التفت على قلبه مشاعر الحب ..
لذا هو في حاله ندم على عصوره السابقة التي لم يداهمها هاجس الحب ..
وهذه القضية تجعلنا نقول بأنا شاعرنا يرى بأن الإنسان تتجلى إنسانيته في تجلي مشاعره حباً وبهذا الحزن وجد ضالته التي لم يدركها إلا بعد أن دخل مدن الأحزان .. " حباً " .
علمني حبكِ أن أتصرف كالصبيان ...
أن أرسم وجهك بالطبشور على الحيطان ...
هذه الجزئية من القصيدة ، جعلتنا نؤكد تغييب عقل الشاعر وعودته إلى ماقبل النضوج الفكري " حساً " في مراهقة الصبا ويؤكد لنا ذلك ..
يا إمرأةٌ قلبت تاريخي ..
فهو يرى هذا التغيير في تصرفاته وسلوكه هو انقلاب سنوات عمره وكأنها إشارة العودة إلى زمن الصبا .
إني مذبوح فيك إلى الشريان ...
" هذا تأكيد على الانتماء واعتراف يؤكد تسلط الحب وإذهال الشاعر " فهي السبب ي قلب التاريخ .. ويؤكد ذلك ...
علمني حبكِ كيف الحب يغير خارطة الأزمان ...
لا نختلف بأن شاعرنا في هذه الحالة يعيش هذا الشعور فيكفيه عذراً بأنها قلبت تاريخه .. وفي هذه الانقلاب ، من الطبيعي أن تتغير خارطة الأزمان في حس الشاعر وينمو هذا الشعور .
علمني حين أحب تَكُف الأرض عن الدوران ...
يعود بنا شاعرنا إلى " يا إمرأة دوخت الدنيا " .. ويؤكد لنا مفهومنا بأنه يلغي كل الكون في تغييب عقله ولا يرى سوى ثوره الحب وبهذا الشعور لا يرى الأيام كما هي في الزمن .. بل توقفت عقارب الساعة .. عندما قلبت هذه المرأه تاريخيه .. وغيرت خارطة الأزمان لذا جاز له أن يرى بأن الأرض تكف عن الدوران ويعود عمره شعوراً بل يتوقف على زمن الصبا .
علمني حبك أشياء .. ما كانت أبداً في الحسبان ...
هل نفهم بأن كل هذه الأشياء التي ذكرها من تغيرات كانت بالحسبان وقَدِمَ ليتعلمها في مدرسه الحب ، إذاً ماذا كانت تخفي له هذه المدرسة من جديدٍ في مفاهيم الحُب ؟؟ .
فعلينا أن لا نتفاجأ لو تجاوز بنا هذا الشاعر حدود الجنون إلى عالم قد لا ندرك له مسمى تحت أكاديمية الحب .
فقرات أقاصيص الأطفال ...
بدأت تداهم عقله الأساطير والتخيلات الكرتونية.
دخلت قصور ملوك الجان ...
أكد لنا هذا التصديق بالخرافات .. وبذلك وصُل الشاعر إلى عرش ملوك الجان .. فإن كنا نعرف حقيقة أو وهماً بـأن الجان تغير في مفاهيم البشر " لبساً " فلنا أن نغوص أعمق ونتصور من يشكل خارطة نظام الجان .. وشاعرنا يقف عند قائد قانون التغيير لذ جاز لنا أن نقول بأن شاعرنا تجاوز مرحله الغفوة لمرحله الغيبوبة .. فشُلت حركته ولمْ يبقى له .. سوى الأحلام .. ويؤكد لنا لذلك ..
وحلمت أن تتزوجني بنت السلطان ...
لقد استرخت كل قواه وبداء في إغفال الواقع واستدراج الأحلام فالسلطان هنا .. هو من حوّل حاله إلى هذا الحال وهيمنَ على عقله .. .. إنه الحب .. ومن هي بنت السلطان .. هي من تنتمي لهذا السلطان " الحب " إنها الحبيبة .. .. " إمرأه يبكي فوق ذراعيها " .
تلك العيناها أصفاء من ماء الخلجان ...
تلك اشفتاها أشهى من زهر الرمان ...
هذه الصفات التي يحلم بها شاعرنا في حبيبته .. ثم يتمادى في الحِلم .
وحلمت إني أقطفها .. مثل الفرسان ...
عندما نضجت حُباً وتحققت حلماً قطفها شاعرنا بفراسة أحلامه ..
وحلمت إني أهديها .. أطـواق اللؤلؤ والمرجان ..
هنا حلم يعبر فيه عن عمق شوقه وصدق شعوره بالحب فهو لم يكفيه طوق بل أطواق .. اللؤلؤ والمرجان ...
علمني حبك سيدتي .. ماالهذيان ..
هذه النتيجة المنتظرة .. لمن يعيش في ألا وعي .. " علمني " يقصد الحب .. ماذا علمه ؟!
علمني أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات ...
وأطارد وجهكِ في الأمطار وفي أضواء السيارات ...
علمني حبك أن أتصرف كالصبيان ...
علمني أشياءً ما كانت ي الحسبان ...
دخلت قصور ملوك الجان ...
كل هذه الأشياء وغيرها تعلمها في مدرسة الحب . نعم .. إنه الهذيان " تحت مظله يقظة براكين المشاعر " .. بعد أن بداء يهذي شاعرنا ماذا حقق له الحب .
علمني كيف يمر العمر ولا تأتي بنت السلطان ..
شاعرنا أراد أن يقول لنا بأن كل الذي ذكره في مدرسة الحب ... كان بفعل السلطان " الحب " ... ولكن بنت السلطان " الحبيبة " لا تزال هاجس يحلم به شاعرنا ويتعذر تحقيقه ..
وهذه المدرسة تعطينا حقيقة رائعة .. بأن الشعور لا ينتمي إلى بشر بشكله ولكن إلى كل مضمون جميل في ذات الإنسان ..
ليكون الإنسان إنسان ..
لم أعرف أبداً أن الدمع هو الإنسان ...
إن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان ...
فحقيقة الإنسان تكمن في شعوره " الدمع هو الإنسان " ولو لم يتحقق هذا الإحساس الجميل .. سيكون هذا الإنسان أجوف .. صامت الحواس لا يشكل إلا .. " ذكرى إنسان " .
((والله اسطووورة ,, بصراحه من أفضل ما قرأت عيني عن الحب اتمنى ينال اعجابكم اخوكم سلمان))